الأدب الإسلامی

 

 

 

 

 

للكلمة الشريفة ضياء باهر وإشراق براق

(3)

بقلم : أديب العربية الكبير معالي  الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

 

 

 


 

        هذا اعتمد على حديث وذاك اعتمد على حديث، وهناك ثالث له موقف مماثل. يقول «ابن أبي الدنيا» رواية عن ابن عون عن محمد:

        «أنه ذكر عنده أنه يصلح الكذب في الحرب، فأنكر ذلك، وقال:

        «ما أعلم الكذب إلا حرامًا.

        قال «ابن عون»: فغزوت، فخطبنا معاوية بن هشام، فقال:

        «أللهم انصرنا على عمّورية، وهو يريد غيرها» فلما قدمت وذكرت ذلك لمحمد فقال:

        «أما هذا فلا بأس به».(1)

        وهذا التسليم بعد الاعتراض جاء مثله في موقف آخر، وكلا الموقفين الموقف العملي فيهما هو الذي رجح الرجوع عن الاعتراض، لأن في رؤية الحادث، ورؤية فائدة الكذب ما يقنع بقبوله؛ لأن المرء يلمس الشيء بكل جوانبه، فيتبين له بالرؤية، والمعاناة، ما لا يتبين له في الحديث والتخاطب والمناجاة، والنص الآتي ينطلق من هذا المنطلق:

        «قال ميمون بن مهران وعنده رجل من قراء أهل الشام:

        إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق!

        فقال الشامي: لا، الصدق في كل موطن خير.

        قال: أرأيت لو رأيت رجلاً يسعى، وآخر يتبعه بالسيف، فدخل دارًا، فانتهى إليك، فقال: رأيت الرجل؟ ما كنت قائلاً؟

        قال: كنت أقول: لا.

        قال: فهو ذاك»(2).

        هذا فيما يخص الجملة التي افتتح بها الرجل حديثه لهشام بن عبد الملك، وهي التي رواها الزهري في مطلع حديثنا هذا.

        والجملة الثانية الشريفة المضيئة في نصيحة الرجل لهشام هي:

        «لا يغرنّك المرتقي السهل، إذا كان المنحدر وعرًا».

        «وإنها لنصيحة غالية، وهي تتلاقى مع القول:

        «قدر لرجلك قبل الخطو موقعها».

        فقد يكون الأمر الذي تُقدم عليه جذابًا عند دخولك فيه، ولكن قد يكون الخروج مؤذيًا، ولهذا فمن الحكمة أن تعطي نتيجة الأمر أهمية أكثر من مقدمته، فلا تكن مثل رجل ساذج يُرْوَى أنه كان ينزل من الطائف بعشرين ريالاً أجْرة السيارة التي تنقله، فسمع يومًا صاحب سيارة في موقف السيارات، ينادي ويعرض أن يُنْزل الراكب من الطائف إلى مكة بعشرة ريالات، ولم يكن له حاجة في مكة يقضيها، أو قصد يرمي إليه، وأغراه هذا التقليل في الأجرة، وأذهله عما سواه، وبعد أن وصل مكة، لم يجد أحدًا يحمله في ذلك الوقت من النهار بأقل من ثلاثين ريالاً، هذا مع انتظار ازدياد الركاب لتكتمل حمولة السيارة. وعادة يجد الأجرة أقل من تلك كثيرًا. ووجد أنه خسر أربعين ريالاً بدون هدف، وزاد عما اعتاد أن يدفعه ذهابًا وإيابًا عند الحاجة بما يقرب من عشرة ريالات.

        وفي كل الأمور تكون السلامة في معرفة طريق المخرج قبل المدخل، ولعل من أبرز الأمور التي تتضح فيها أهمية هذه النصيحة الحروب والدخول فيها، والصفقات التجارية، وركوب البحار ووسائل السفر لها، وقد يدخل شخص غابة مستسهلاً الأمر، أو يلج إلى صحراء، ثم يتوغل تدريجًا، ولا يلتفت إلى ما يقتضيه العقل من الحذر، فلا يتنبه لذلك إلا بعد أن يواجه بالأمر. وأمور الحياة كلها تكاد تخضع لهذا القول السديد.

        والشمعة المضيئة الثالثة فيما رواه الزهري هي:

        «إعلم أن للأعمال جزاءً، فاتق العواقب».

        فالعمل الخَيِّر يأتي بالخير، ولكن الشر يأتي بالشر. فعلى الإِنسان أن يتحرى قبيل الإِقدام على عمل ما هي النتيجة، فيزن الأمور بميزان ذهب دقيق، ويعرف عن كنه العاقبة، والنية لا تُنسى في هذا المجال، فهي تلعب دورًا مهمًّا في عمل من نوى عملاً، فيجب أن تكون النية صافيةً، وفي عمل خير.

        والحكمة الرابعة المشعة بإشعاع الصدق والحكمة قوله:

        «وإن للأمور تعاقبًا فكن على حذر».

        فالمرء يجب أن لا يغفل عما قد يكون لاحقًا بطبيعته لما سبق، فدحر عدو في ميدان القتال قد لا يكون آخر الجهد، فقد يكر العدو على غفلة، وهنا تجب اليقظة لما قد يتبع النصر؛ وأن يحمد التاجر السوق في فترة من الفترات، فهذا لا يعني أن لا يتبع هذا شيء مغاير لم يخطر على البال، فاليقظة والحزم لابد أن يكونا مع المرء دائمًا، يتوجس من خطوات تقتضي طبيعة الأمور تتابعها، وقد يكون المرء غافلاً عن ذلك أو جاهلاً به.

        لهذا بعد أن ذكر «الزهري» هذه الوصايا الأربع بقي الخليفة المهدي مشدوهًا يستمع، واللقمة في يده قد رفعها إلى فمه، وسكنت جوارحه عن الحركة، ليستوعب هذه الأقوال الثمينة التي عرف المهدي قيمتها، لأنه من نقاد الجواهر، وعارفي قدرها.

        والقول الصادق يأتي على لسان «إسحاق الموصلي» رواية عن الأوائل، فيقول في هذا:

        «أول العشق النظر، وأول الحريق الشرر»(3).

        العشق الذي كثيرًا ما يغص حياة المحبين، وجعل بعضهم يهيم على وجهه، وبعضهم يذهل عن نفسه، فيحرم عليها النوم والطعام والشراب، حتى يودي بحياته العشق، العشق الذي أبعد بين قريبين، وأقام الحرب بين فريقين، العشق الذي لم يترك أمة دون أن يتمركز في صدر تاريخها، ويملأ صفحات أدبها بأخبَاره، وبآهات العشاق فيه. هذا العشق يبدأ بنظرة، ولعلها تكون خاطفة، ولكن سهمها نافذ يصل إلى القلب، فيدميه، ثم يلف حوله حبل الحب العجيب، ويصعد إلى العيون فيعميها عن أن ترى حقيقة المعشوق، أو تبصر عيوبه، وتصمي السمع عن أن يسمع، والعقل أن يعي. كل هذه الآلام والغرائب من نظرة من العين(4)، وإشعاع نافذ منها تعدى الحواجز، واخترق الحصون إلى قلب كان فيه استعداد خامد رابض، أيقظته صدمة بهجة، انتفض على أثرها، ونفض غبار الجمود والخمود، واشتعل نشاط مفاجئ، ملك الحواس، وسيطر على كيان العاشق، فقلب حياته رأسًا على عقب، وأصبح إنسانًا آخر، بسبب نظرة، وطلقة أرسلت من بين جفنين، لعلهما لم يعلما اشتراكهما في هذا العمل الخطير، مرت بهما النظرة، فشهدا على ما مر بها، أو لم يشهدا!

        ومثل نظرة العشق هذه التي دمّرت أو عمَّرت، الشرارة، تنطلق صغيرة، فتحدث حريقًا كبيرًا؛ هذه الشرارة، بما في طبيعتها من قوة هيأها لها الله سبحانه وتعالى تقضي على غابة أو مدينة أو سفينة، أو عمارة؛ ولهذا فصغير الأمر إذا كان من طبيعته داخلاً ما يغاير مظهره خارجاً، يحتاج إلى مراقبة وحذر.

        والكلمة الصغيرة الجارحة، أو النابية، يلقيها الإِنسان دون أن يعطيها الاعتبار اللائق بها، قد تكبر، فتذهب وتعود، وإذا هي صخرة عظمى، انحطت من جبل عالٍ، جاءت منحدرة، تهلك ما أمامها، وما حولها. وكان بالإِمكان تفادي هذا الضرر العظيم، لو أنها حُزِمت ولم تُقَلْ.

        وتكلمنا عن العقل وشرفه، وتكريم الله سبحانه وتعالى له، والفائدة التي يجنيها من يُعمل عقله، ولا يهمله، أو يدعه يصدأ، أو يُغَلِّب عليه العاطفة، والأمم الحضارية تكلمت عن العقل، ووفته حقه، في تبيان أهميته، وفي القول الآتي صورة من الصور التي توضح ما هو عليه في ذهن أحد الحكماء:

        «قال علي بن عبيدة:

        العقل مَلِكٌ، والخصال رعيته، فإذا ضعف عن القيام عليها، وصل الخلل إليها»(5).

        هذه صورة صادقة، في قول شريف، فالعقل هو المسيطر على الجوارح، وهو المهيمن على التصرفات، وهو المدبر لأفعال الإِنسان، في حدود ما وهبه الله من تركيب وتنظيم، وتحسين صوره. وسعادة الإِنسان بإذن الله تتوقف على مدى إكرام المرء لهذه الجوهرة، وانصياعه لأوامرها ونواهيها؛ فإن مشى في ظل دوحتها، واهتدى بما تضعه له من علامات على الطريق، يسير في ضوئها إلى الغاية السعيدة التي ترسمها له، وصل إلى ما يحمده، أما إذا أهملها؛ وجعل أحدًا من رعيتها يقدمها، فقد حكم على نفسه بالفشل، وسوء المنقلب.

        ومن أبرز أعداء العقل، وأشدهم ضراوة العاطفة، وهي التي في نزاع شديد مع العقل، وتحاول أن تبرز أمامه في كل طريق، وتفسد عليه كثيرًا من جهوده وتنظيمه، والمرء سعادته وشقاؤه بإذن الله يتوقف على أيهما يغلب، العقل أو العاطفة؛ والعاطفة لا يستغنى عنها في الحدود المرسومة لها، ولكن الخلل يدخل عملها، عندما تمد رقبتها إلى ما متع به غيرها.

        لهذا عندما سمع أعرابي ما قاله علي بن عبيدة لم يملك نفسه فقال:

        «هذا كلام يقطر عسله»(6).

        والكلمات الصائبة الشريفة أحيانًا لا تُهدى، وإنما تستخرج استخراجًا، وتستدر استدرارًا، كما فعل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عندما سأل صعصعة بن صوحان:

        «صف لي الناس:

        فقال: خلق الله الناس أطوارًا، فطائفة للعبادة، وطائفة للسياسة، وطائفة للفقه والسنة، وطائفة للناس والنجدة، وطائفة للصنائع والحرف، وآخرون بين ذلك، يكدرون الماء، ويغلون السعر»(7).

        لقد مر صعصعة على طبقات المجتمع في زمنه فوصفها وصفاً دقيقًا، وقسمها إلى فئات هي أبرز ما في المجتمع، وكأنه يتحدث عن أهمية كل فئة لنفع الأمة التي هي فيها، حتى وصل إلى فئة وجد أنها لا تفيد المجتمع، ولا تدخل ضمن أي فئة من فئاته، بل إن منهم ضررًا على مجتمعهم، فهم يكدرون الماء عند الورد، ويرفعون الأسعار؛ فهم بهذا عبء على المجتمع، يأتي بالضرر، ويمنع النفع، ولعله قصد بهؤلاء الذين لا يعملون، وإنما هم عالة على المجتمع، وعَدَمُهُم خير من وجودهم فيه بهذه الصفة التي هم عليها.

        هذه بعض الأقوال التي تحمل معاني شريفة، فيها من الإِضاءة ما يرشد المسترشد، ويهدي الضال، ويفيد طالب الفائدة، وما أكثر الأقوال الشريفة في أدبنا العربي وتاريخنا، في انتظار من يعود إليها.

*  *  *

الهوامش:

(1)       الصمت: 305.

(2)       الصمت: 292.

(3)       البصائر: 1/82.

(4)       هذا هو المعتاد، وعند الشاعر حالة شاذة يقول عنها: «والأذن تعشق قبل العين أحياناً».

(5)       البصائر: 1/28.

(6)       البصائر: 1/28.

البصائر/ 1/45.س

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربیع الثانی  1435هـ = فبرایر 2014م ، العدد : 4 ، السنة : 38